الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة الدخان مكية باتفاق، إلا قوله تعالى {حم، والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} إن جعلت }حم}جواب القسم تم الكلام عند قوله}المبين}ثم تبتدئ }إنا أنزلناه}. وإن جعلت }إنا كنا منذرين}جواب القسم الذي هو }الكتاب}وقفت على }منذرين}وابتدأت }فيها يفرق كل أمر حكيم }. وقيل: الجواب }إنا أنزلناه}، وأنكره بعض النحويين من حيث كان صفة للمقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، والهاء في }أنزلناه}للقرآن. ومن قال: أقسم بسائر الكتب فقوله}إنا أنزلناه}كنى به عن غير القرآن، على ما تقدم بيانه في أول }الزخرف}والليلة المباركة ليلة القدر. ويقال: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة القدر. ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب. {فيها يفرق كل أمر حكيم} قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أوموت أورزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، قاله ابن عمر. قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. قلت: وقد ذكر حديث عائشة مطولا صاحب كتاب العروس، واختار أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة النصف من شعبان، وأنها تسمى ليلة البراءة. وقد ذكرنا قوله والرد عليه في غير هذا الموضع، وأن الصحيح إنما هي ليلة القدر على ما بيناه. روى حماد بن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو، إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج؛ يقال: يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وهزه الإبانة لإحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق. وقد ذكرنا هذا المعنى آنفا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان؛ وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع {أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم} قوله تعالى}أمرا من عندنا}قال النقاش: الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده. وقال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك }رحمة ربك}وهما عند الأخفش حالان؛ تقديرهما: أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد}أمرا}في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج}أمرا}نصب ن}يفرق}، مثل قولك }يفرق فرقا}فأمر بمعنى فرق فهو مصدر، مثل قولك: يضرب ضربا. وقيل}يفرق}يدل على يؤمر، فهو مصدر عمل فيه ما قبله. }إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك}قال الفراء }رحمة}مفعول بـ }مرسلين}. والرحمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج}رحمة}مفعول من أجله؛ أي أرسلناه للرحمة. وقيل: هي بدل من قول. }أمرا}وقيل: هي مصدر. الزمخشري}أمرا}نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. وفي قراءة زيد بن علي }أمر من عندنا}على هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن }رحمة}على تلك هي رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له. {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين، بل هم في شك يلعبون} قوله تعالى}رب السماوات والأرض}قرأ الكوفيون }رب}بالجر. الباقون بالرفع؛ ردا على قوله}إنه هو السميع العليم}. وإن شئت على الابتداء، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ تقديره: هو رب السماوات والأرض. والجر على البدل من }ربك}وكذلك}ربكم ورب آبائكم الأولين}بالجر فيهما؛ رواه الشيزري عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السماوات والأرض؛ أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل، ويجوز الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق؛ أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق؛ وأنه الذي يحيي ويميت. وقيل: الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه؛ كما تقول: فلان ينجد؛ أي يريد نجدا. ويتهم؛ أي يريد تهامة. }لا إله إلا هو يحيي ويميت}أي هو خالق العالم؛ فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء. و}هو يحيي ويميت}أي يحيي الأموات ويميت الأحياء. }ربكم ورب آبائكم الأولين}أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب. }بل هم في شك يلعبون}أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم: إن الله خالقهم؛ وإنما يقولونه لتقليد آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة. وقيل}يلعبون}يضيفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب؛ وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته. {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم} قوله تعالى}فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين؛ قال قتادة. وقيل: معناه أحفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتى السماء بدخان مبين؛ ولذلك سمي الحافظ رقيبا. وفي الدخان أقوال ثلاثة: الأول: أنه من أشراط الساعة لم يجيء بعد، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض؛ فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم؛ وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد: علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة؛ يأخذ المؤمن منه كالزكمة. ومنفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه؛ ذكره الماوردي. قوله تعالى}يغشى الناس}في موضع الصفة للدخان، فإن كان قد مضى على ما قال ابن مسعود فهو خاص بالمشركين من أهل مكة، وإن كان من أشراط الساعة فهو عام على ما تقدم. }هذا عذاب أليم}أي يقول الله لهم}هذا عذاب أليم}. فمن قال: إن الدخان قد مضى فقوله}هذا عذاب أليم}حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا. فهو حكاية حال آتية. وقيل}هذا}بمعنى ذلك. وقيل: أي يقول الناس لذلك الدخان}هذا عذاب أليم}. وقيل: هو إخبار عن دنو الأمر؛ كما تقول: هذا الشتاء فأعد له.
|